السبت، 20 يونيو 2015

بعض من الهلوسة لن يضر..

مرحبًا من جديد ..
أظننى نجوت بفعلتى هذه المرة ، لكنى لست متأكده من نجاتى فى المرة القادمة ،فدعنا نأمل ألا تكون هناك مرة قادمة..
 ودعنا لا نتحدث عن الأمر ، فلن أقدر على المكوث هنا طويلًا، فعيناى متفجرتان بالدماء من الحُمى..
تعال إذن لنقم ببعض أنشطة النوستالجيا ، ما رأيك؟ .. إن النوستالجيا من بين كل الأمور لطالما كانت نشاطى المفضل، لا أدرى ، لكنى أقدس الذكريات بشكل نستطيع أن نصفه بقلب مستريح بأنه خارج نطاق الطبيعية ، جديًا، حين يتعلق الأمر بالماضى فإننى أتحول إلى طفلة وديعة كالحمل تجلس لتستمع إلى حكايات عهد الأسطورة ..
وكما تعلم ، فإن عهد الأسطورة هو المصطلح الذى لطالما استعملته لوصف فترة الطفولة ، أو كل فترة يبعد العهد بينى وبينها ، فتصير عهد أسطورة آخر ، ومن يعلم ؟ .. فربما صارت هاته الفترة عهد أسطورة لفترة أخرى مقبلة .. أتفهمنى؟ 
على أية حال .. مصطلح "عهد الأسطورة" هو ما استعمله "نجيب محفوظ" فى روايته "قلب الليل" ليصف طفولة البطل ..ومنذ قرأت تلك الرواية فى العام 2013 وأنا لا أجد ما هو أكثر ملاءمةً منه ..
تعال نتحدث قليلًا عن صيف العام ألفين وثلاثة عشر من أعوام الأرض..
كان عمرى خمسة عشر ربيعًا..
كنت فى ذلك الطور ما بين سذاجة المراهقة والنضج..وليس كل النضج ، إنما لمحة منه ..
كنت أنقب فى مناجم ذاتى .. أبحث هنا وهناك ، وأحاول اكتشاف ذلك الكائن الغريب بداخلى..
كان لى مبدأ واحد ، وهو أن أعرف من أنا ،حتى يتسنى لى التعرف على الآخرين .. فكيف لى أن أفهم الآخرين إن كنت لا أملك أدنى فكرة عن هويتى ..
الناس غرباء - كما تقول فرقة the doors- ، وكنت أعرف هذا يقينًا..
وقد كنت -وقتها- أقرأ الروايات بلا توقف .. وعرفت فى ذلك الصيف باولو كويللو للمرة الأولى .. فى أول يوم من أيام اجازة الصيف ، ابتعت روايته الأشهر على الإطلاق : "الخيميائى" ،واستيقظت فى اليوم التالى فى السابعة صباحًا وقد اعتزمت قراءتها ، كان فى ذهنى ألف تصور وتصور لما سأجده بين دفتىّ تلك الرواية ، فقد كانت -كما يقول الغلاف- الرواية الأكثر مبيعًا على مستوى العالم-، وقد أثارت ضجة اعلامية لا بأس بها فور صدورها ..المهم أننى استيقظت لأصنع بعض الشاى وأحمص بعض التوست وأبدأ فى قراءتها على أشعة الشمس الضعيفة المنبثقة من نافذة المطبخ ..

لا أدرى ، لكننى حين انتهيت منها وجدت أنها أسخف ما قرأت على الإطلاق، أو ربما أخذت أقنع نفسى أنها رواية جيدة ولا بأس بها ، وتستحق كل ذلك الجنون الإعلامى..
 لا أدرى أكنت أكثر سذاجة من أفهمها، أم أنها أسخف مما يتصوره الناس.. الناس يبجلون هذه الرواية وينشئون نوادى القراءة على شرفها .. 
لا أدرى، ربما أعيرها لإسراء، حينها ربما نكتشف جزءًا من الحقيقة .. 
الأمر يذكرنى بقصة كوميكس أمريكية قرأتها من قبل ، عن شاب يزوره بعض الأصدقاء ، يتحدثون إليه قليلًا ثم يسألونه : "هل قرأت رواية الخريف؟" .. فيهز رأسه ويخبرهم أن "لا" .. فتسقط فكوكهم من الدهشة .. ويبدأون فيما يشبه العويل والصراخ واللطم ، يخبرونه أن عليه أن يقرأها فورًا ..فلا يأخذ كلامهم بجدية ، ويخبرهم على مضض بأنه سوف يقرأها حين يتسنى له ذلك ..
يسير فى الشوارع ليجد لافتات فى كل مكان تتحدث عن رواية "الخريف" .. وحفلات على شرف الرواية .. وندوات لمناقشتها .. وروابط محبى رواية "الخريف" .. يسير فى شوارع البلدة فيمر بصديق قديم له..يتبادلان التحية، ثم يسارع الصديق بسؤاله : "أقرأت رواية الخريف؟" .. فيقول الشاب : "آممم ، لا ؟؟" .. وفجأة ، يتوقف كل المارة وأصحاب المتاجر عما كانوا يفعلونه ،ويترك كل واحد ما كان بيده ، ويوجهون للشاب نظرة شك ،يتجمدون فى أماكنهم ، وكأنهم مجموعة من الزومبى يكتشفون وجود بشرى بينهم !
يهمس له صديقه : "من الخطر أن تقول هذا فى الأماكن العامة .. تعال لتختبئ عندى فى المنزل حتى يهدأوا" .. 
وفى منزل صديقه .. يكتشف الشاب أنه -حرفيًا-الوحيد فى البلدة الذى لم يقرأ رواية "الخريف".. يخبره صديقه أن عليه أن يقرأها فورًا وإلا ستصادر الجماهير الغاضبة ممتلكاته وسيعتبرونه مسخًا غريب الأطوار .. 
يعيره صديقه نسخته من رواية "الخريف" .. ويخبره أن عليه أن يجلس فى ذلك الركن من غرفة المعيشة حتى ينتهى من الرواية ..
يبدأ الشاب فى قراءة الرواية ليجد مشهد البداية كالآتى :
"الفتى ذو الشعر الأرجوانى وبذلة السهرة ذات اللون الأزرق الداكن كدرجات اللون الأزرق الداكن يسير فى الطريق المبتل كوسادتك بعد كابوس طويل .. وتأتى لفحة هواء من هواء الخريف الذى يتصف بسمات هواء الخريف التى نعرفها جميعًا لتسرى بين خصلات شعره الأرجوانى ، فتحركه يمينًا ويسارًا وأمامًا وخلفًا وفوقًا وتحتًا .. وفى الاتجاهات الفرعية كذلك و...."

يقرأ عشرين صفحة من هذا الهراء ، ثم يغلق الرواية وقد فهم الأمر .. يتجه لصديقه ويسأله : "أتعرف؟ ، أعجبتنى البداية، وبخاصةً ذلك المقطع فى الصفحة العاشرة والذى يصف فيه سحلية الإجوانا الى تملكها جدته .. 
فيضحك صديقه ويهز رأسه موافقًا فى اعجاب ..
وهنا يبدأ الشاب فى موجة ضحك عارمة ، لا تقطعها إلى تساؤلات صديقه الحائرة عن سبب كل هذا الضحك ..
فيخبره الشاب أن رواية الخريف لم يتم فيها ذكر "سحلية الإجاونا" فى أى صفحة من صفحاتها .. وأنه اختلق أمر السحلية هذا ليتبين صدق أو كذب ظنه .. فحين قرأ أول عشرين صفحة من رواية الخريف أيقن أنها هراء لا يتحق إلا أن يتسعمل فى تحمير البطاطس وامتصاص الزيت .. وأيقن أن أيًا من هؤلاء الناس لم يقرأ حرفًا فى الرواية .. أو قرأوا أول خمس صفحات على أقل تقدير ..
وقد صدق ظنه ..فقد اعترف أهل البلدة جميعًا أن أيًا منهم لم يقرأ إلا أول عدة صفحات من رواية الخريف، حيث أن كل واحد منهم ابتاع الرواية تطبيقًا لنصيحة صديق أو جار ..
أتعرف ؟ .. أظن الأمر سيان فى حالة رواية " الخيميائى" .. نعم أظن ذلك يا باولو ..     

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قُل..