الجمعة، 8 ديسمبر 2017

بانتيانو سيُقدم على قتل نفسه اليوم.

تهبط على أدراج البناية المتهالكة درجتين درجتين، أقدامها تحولت إلى إطارات سيارة من لحم وعظم تتدحرج على الأدراج من فرط السرعة..تشهد عيناها أثناء نزولها على لوحات الحب الساذجه التى ملأت حوائط البناية ، والتى صنعتها موانا حبيبة أوجستين ،والتى تسكن معهما فى نفس البناية، قلوب زرقاء ساذجه ملونة بألوان الباستييل يخترقها سهم..رُسمت على فرخ أبيض،وموزعة هنا هناك بجانب وأمام كل شقة فى البناية..
أنهت دحرجتها على الدرج عند الدرجة الأخيرة، خرجت للشارع وقد بدأت تعدو كالمجاذيب
"بانتيانو سيُقدم على قتل نفسه اليوم، لقد رأيت ، لقد سمعت ، بأم أذنىّ"!
هكذا صرخت وأعلنت، كأنها حقيقة لا جدال فيها، كأنها خطاب من رئيس البلدية يخبرهم فيه أن عدوهم الجديد هو الفقر، ولم يعد الجوع، فيصبح الفقر هو العدو الجديد ،وينتهى الجوع ويُنسى ويصبح نسيًا منسيًا.
أخذت تعدو وسط البنايات، الشمس تَلوح فى الأفق وتُلوِّح لها بالوداع، إنه الغروب عزيزتى سأعود بالغد، حظًا موفقًا مع بانتيانو.
"بانتيانو سيُقدم على قتل نفسه اليوم، سيفعلها اوجستين أولًا من أجل حبيبته موانا، ومن ثم سيفعلها بانتيانو، من أجل لا أحد"
 هكذا صرخت من جديد فى وجه الشمس ووسط البنايات والطرقات الشبه خاليه..هزت الشمس رأسها فى سخرية وابتعدت هابطة للأسفل خلف الجبل القابع أمام البناية..
بدأ الظلام يحل وما زالت تعدو كالمجاذيب، حتى لاحت لها المدرعات من بعيد، ولمحت بذلة أبيها العسكرية، أخذت تعدو بين المدرعات نحو أبيها الجنرال المثقل بالأوسمة الشرفية، من فرط سرعتها لم تتوقف عن العدو فى اللحظة المناسبة، فاصطدمت به وغاصت رأسها فى بطنه الضخم..
"بحق أضواء الشمال ما الذى..."
لكنها قاطعته حازمةً: "بانتيانو سقدم على قتل نفسه اليوم، لقد رأيت كل شىء، فيما يرى النائم"
ثم استطردت: "سيفعلها اوجستين أولًا من أجل حبيبته موانا، ومن ثم سيفعلها بانتيانو، من أجل لا أحد"
أخذت تلتقط أنفاسها وقد ألقت ما فى جعبتها ، نظرة مطولة متفحصة من أبيها الجنرال، تبعتها صرخته وهو ينادى:
"اجمعوا العتاد، احشدوا المدرعات نحو بناية الطوب الأحمر، لا إفطار لنا اليوم يا صائمى إسكارينا قبل أن ننقذ بانتيانو"
صرخت هى فى استنكار: "إن كل ما أحتاجه هو حشية سرير قطنية، أحتاج إلى حشية قطنية، هذا هو كل ما أحتاجه لإنقاذ بانتيانو"
لكن أبيها الجنرال العالم ببواطن الأمور أزاحها جانبًا ، وسار نحو سيارته العسكرية متبخترًا واختفى بداخلها..
فصارت تعدو مجددًا صارخة بشعار جديد: "اعطونى حشية سرير قطنية..أليس فيكم من يملك حشية سرير قطنية؟!..علام تنامون يا أبناء الشيطان؟!"
بدأ أهل إسكارينا الصائمون فى الإحتشاد لمشاهدة المدرعات تتجه نحو بناية الطوب الأحمر التى امتلأت جدرانها بقلوب موانا الزرقاء
"حشية سرير قطنية هى كل ما أحتاج"
صرخت فى المارة، وصرخت فى معاون أبيها ألكسندر الذى يرتدى فانلة بيضاء على بنطال كاكى على الدوام..
"سنتولى الأمر عودى إلى المنزل"
هكذا قال ألكسندر فى ثقة غير مهزوزة..
تجاهلته وظلت تجرى فى الطرقات بحثًا عن حشية قطنية
"أوه انظر إلى هذه الساقطة التى تجرى فى كل مكان، انظر إلى أقدامها الحافية وبنطالها القصير، انظر إنها لا ترتدى حمالة صدر أيضًا، أستطيع أن.."
تناهت إلى مسامعها أصوات أفكار المارة الناتجة عن نظرات ثاقبة منهم إليها..سمعت الكثير لكنها لم تسمع عن شخص واحد يدعى إمتلاك حشية سرير قطنية..
قررت أن تعود إلى بنايتهم، بناية القلوب الزرقاء لموانا، ترى هل يقف اوجستين وبانتيانو الآن على سور شرفة الدور السابع؟..ترى هل أتت اللحظة؟..ترى هل فاتتها وفاتها الأوان؟
ها هى البناية هناك..وها هو أوجستين وبانتيانو يقفان جنبًا إلى جنب، على سور شرفة الدور السادس، أوه لقد أخطأت فى العد، أو أن رؤياها لم تكن دقيقة جدًا فى الحساب..
ولكن على أى حال ها هو المشهد آتٍ من كابوسها إلى الواقع، على مرأى ومسمع منها.
وقفت متصلبة ترمق الجسدين الواقفين بالأعلى..والمدرعات تحاصر البناية شيئًا فشيئًا..لا تجيد شيئًا إلا الحصار..وماذا بعده؟، كيف من شأن هذا أن ينقذ بانتيانو؟
ظل أوجستين وبانتيانو على هذه الحال وقوفًا لبضعة دقائق، حتى صرخ أوجستين: "من أجل موانا!"
ثم قفز بجسده الثقيل واتخذ وضعًا رأسيًا فى الهواء كسهم بشرى..وسرعان ما تحطم كالدمية الخزفية على أرض الرصيف..
تأهبت هى للجرى مرة أخرى بحثًا عن فرشة قطنية لإنقاذ بانتيانو،فى محاولة يائسة أخيرة..لكن قبل أن تفعل..نظرت من جديد إلى أعلى، لتجد بانتيانو لا زال هناك،لا يظهر أبدًا أن فى نيته القفز فى أى وقت قريب ..يقف متصلبًا، وقد استطاعت من الأسفل أن تلمح شبح إبتسامة على ثغره.

الجمعة، 28 أبريل 2017

زبدة الفول السودانى و ماونت كاميرون وأشياء مسلية أخرى.

قررت أمى أن تترك البيت، أن تأخذ اجازه منا ومن متاعبنا، فرأيتها فى المطبخ -كأى يوم عادى- تعد شيئا ما..أمامها ارغفة خبز فرنسى طويلة تعبئها بشىء ما تارة، وتارة تدهنها بشىء ما..لم يكن قد تناهى لمعرفتى بعد قرارها بترك المنزل..رحت اراقبها فى اهتمام، حتى زفرت ثم أعلنت انها قد انتهت، كيف يكون الانتهاء بالنسبة لها؟ لا أدرى لكنها توقفت عن صنع الشطائر وغادرت المطبخ، فدخلت انا لأجد طاولة المطبخ وعليها كوم كبير من شطائر زبدة الفول السودانى التى افضلها، بعضها محشو بالموز، وبعضها الآخر محشو بجيلى الفراولة، وبعضها بدون اضافات..وعلى طاولة أخرى تراكمت اكوام من كعك المافينز، بعضه بالشيكولاته والبعض الآخر بالزبيب والبعض بالفراولة والبعض سادة..تأملت كل هذا فى حيره..حينها شعرت بظل يسد باب المطبخ، نظرت فهى أمى، تخبرني -بدون أن تنظر فى عينى- انها ستغادر المنزل، وقد أعدت لنا مئونة تكفينا لبعض الوقت..لم أجد شيئا لأتفوه به ،فقط رحت أنظر للطاولتين فى صمت مرتبك. 
تغيرت المعالم وعرفت اننى ادخل فى دوامات حلم آخر، ولكن ولدهشتى ظلت آثار الحلم الأول حاضرة، لا زال فى ذاكرتى أمر رحيل أمى عن المنزل..
فى اللحظة التالية أجد نفسى فى مكان ذى طبيعة جبلية،بيئة وعره وصخرية..أنظر حولى فأجد اننى لسه وحدى..يقف حولى رجل وامرأتين وكلهم يبدون فى منتصف أعمارهم البشرية..كلهم ينظرون إلى أسفل بوجوه مذعوره..أتردد قليلا، ثم أنظر لأسفل..فى البداية شعرت بلفح من الهواء الساخن يضرب وجهى بقسوة..ثم استقبل دماغى إشارات الألياف البصرية فى عينى ،فرأيت اللافا..تبدو كأمواج ثائرة تتخبط فى المحيط من تحتى..وأرى خيط الدخان الأسود المنذر بالويل..هذا بركان نشط جدا ان أردت رأيى..ثم عرفت تلقائيا أننا نقف على فوهة بركان "ماونت كاميرون"..والذى كنت قد قرأت عنه فى رواية قبل النوم بساعات، فلم أندهش كثيرا حين رأيته وقد تسلل إلى عوالم عقلى الباطن..
أسمع الرجل بجانبى يقول موجها الكلام إلينا: نحن الآن نقف على فوهة ماونت كاميرون..نقوم بهذه التضحية من أجل علم الجيلوجيا..جئنا نحاول أن نفهم، لماذا تحولت الصخور حول الفوهة إلى اللون الأخضر!
ولأول مره ألاحظ إننى اقف على كتلة خضراء اللون تبدو ملساء كجلد ثعبان..البركان محاط بالكتل الخضراء العالية..تحيط بالفوهة كحزام طويل حول خصر جبلى ضخم..
ادوس بقدمى على المادة الخضراء الغريبة فأشعر بلدونتها تحت قدمى..اذن فها نحن نقف على فوهة ماونت كاميرون لا يفصلنا عن اللافا تحتنا إلا مادة لدنة زلقة نقف عليها..نحن كمن نقف على هاوية..مثلما يحدث فى توم وجيرى حين يكتشف توم انه كان يجرى بلا أرض تحته ،حين يشير له جيرى -منبها- بأصبعه لأسفل ،وحين ينظر توم للأسفل ويرى الهاوية ثم يسقط..الفرق هنا أننا تقنيا نقف على الهاوية وننظر للأسفل ،لكننا لا نسقط..هذا موت بطىء مؤلم إن أردت رأيى..
هنا تبدأ المادة الخضراء اللدنة فى اظهار لدونتها..من تحتنا نشعر بالارض تمور بنا..نشعر بالمادة وهى تذوب وتنخفض وتنسحق للأسفل تحت اقدامنا..ونحن نغوص فيها..نتشبث بالصخور ونحاول تحرير أقدامنا من المادة التى تحورت من لدونة إلى لزوجة..ثم لدونة مره اخرى..فقد كانت تتحول للزوجة حتى تسمح لأقدامنا بالدخول والنفاذ خلالها، ومن ثم تعود للدونة لتطبق على اقدامنا بداخلها..وكأن لها عقلا تخطط به للنيل منا..
سمعت صرخة امراة من المرأتين اللتين كانتا معنا..كانت قليلة الحظ فابتلعتها المادة الخضراء تماما وغابت بداخلها..ثم غاصت المادة الخضراء وانسحقت فى اللافا..
لاكون مختصرة فقد قاومنا وتحررنا واستطعنا الوقوف على مرتفع اخضر كان ما زال محتفظا بلدونته..وقد كان لدنا بدرجة غير مسبوقة سمحت لنا بالقفز عليه لمسافات مرتفعه الى أعلى ، مثل الترامبولين، فاغتنمنا الفرصة وقفزنا إلى اعلى مسافة استطعناها حتى حملتنا القفزه إلى أرض صخرية صماء..الصلابة المطمئنة من جديد،لا مزيد من اللدونة الخادعة..
أخذنا نعدو كمن يطارده الشيطان..حتى وصلنا إلى الحضارة من جديد..أرض مأهولة..أنظر حولى. .هذه هى معالم القاهرة!!
القاهرة؟  تقع قريبا من سفح ماونت كاميرون؟ ..لا أستطيع أن أتهم عقلى الباطن بالدقة الجغرافية ها هنا، لكن نعم، يبدو أن ماونت كاميرون قد شد الرحال من بلاده وانتقل إلى القاهرة يا سادة.
أستمر فى الجرى حتى أجد نفسى فى الجيزة بعد دقائق ..أستمر فى الجرى وانا أفكر فى الشطائر إلى أعدتها لنا أمى ..شطائر زبدة الفول السودانى المفضلة لدى..والكعك..سيتفحم كل ذلك حين يثور البركان..كم أن هذا مؤسف.

السبت، 15 أبريل 2017

السريانات

أنت تعرفين انك هبطتى إلى عوالم هيدز، فقدتى وجهك فصار تجويفا مظلما مكان الوجه، نعرف جميعا أن من يهبط إلى هيدز لا يمكن له أن يحتفظ بوجهه أبدا..لا يا عزيزى هذا غير ممكن..ربما يحدث فى العالم فوق الأرض أن يفقد شخص شيئا عزيزا فيكون عزاؤه الوحيد انه سيكتسب شيئا آخر فى المقابل، لكن هنا فى هييدز، انت تخسر فقط.
تتحسسين الطرقات، انت لا تعرفين حتى ان كانت طرقات هذه أم جسور أم تلال..لكنك تسيرين على غير هدى وكفى..لا وجه ولا ضوء..لربما كانت هيدز مضيئة منذ البداية، لكن ولأن من يهبطون هناك لا يحتفظون بوجوههم فإنهم لا يعرفون الحقيقة أبدا، فإننا لن نعرف الحقيقة أبدا.
تعرفين القواعد..لقد هبطتى هنا منذ بضعة دقائق لكنك ولدهشتك تدرين قواعد اللعبة كمن عاش هنا خمسة أعوام، أقصد أمم..كمن قضى هنا خمسة أعوام..
تقفين فى ذلك الركن..تشرئبين برأسك إلى فوق، تنظرين بما كانتا عينيك فى وقت مضى إلى الأعلى..هناك حيث النور..العالم فوق..يفصلك عنه إجابة سؤال واحد..فإن اصبتى الإجابة تصعدين، ربما تحصلين على وجه آخر غير وجهك الأصلى، لكنك ستصعدين من حفرة الفئران هذه ..هذا مطمئن..فى إجابة سؤال واحد تكمن النجاة.
وإن أخطأتى فالويل.

الجمعة، 14 أبريل 2017

هااوم

لا اذكر الكثير لكنى كنت أعيش فى مجتمع من مخلوقات ليلية ما..كانت شقتى كما هي على نفس الهيئة التى اعتدتها. .أذكر انها كانت شقة الرماية الاثيره لدى، كان هناك فتى ثريا يعيش مع ابيه الثرى فى شقتنا..حين يتأتى الليل يخرجون من حيث يكمنون وينادوننى حتى ألعب مع الصبى..يجعلنى اشاهد مجموعته الفريده من الاقلام ..اقلام جافة متراصة امام بعضها فى صناديق زجاجية قصيرة الارتفاع ..بريما بجميع أنواعها وأقلام ريونالدز وأقلام مجهولة الهوية بجميع ألوانها..يتباهى أمامى بتلك المجموعه الفريده من نوعها..وأجد نفسى مفتونة بشكل خاص بقلمين ؛واحد لونه وردى والآخر ارجوانى داكن، هذا من فعل عقلى طبعا، لأننى كنت أملك هذين القلمين فى زمن ما حين كنت فى الثالثة عشر..وقد كانا عزيزين إلى قلبى..
كنت ساذجة جدا ولم أتساءل، أنى لكل هذه الصناديق الزجاجية المعبأة بالأقلام الجافة ان تختفى ما أن يأتى الصباح..الى أين تكمن؟..كيف يعقل إننى لم ألاحظ وجودها ابدا فى وقت من الصباح؟..لم يحيرني الأمر كثيرا،لكننى كنت اعرف أنهم يظهرون فى الليل، وأن على أن اعتنى بالأمير الصغير حتى يتسنى للأب والأم أن يقوما بعمل الكبار فى سلام ..لا أدرى على وجه اليقين أكانا يذهبان للصيد..لكنه الاحتمال الأكثر ورودا..يأتى الصباح ويودعنى الفتى ويختفى مع مجموعته الثرية من الاقلام..إلى ليلة أخرى عزيزى.